زمن اللّعب التركي على التناقضات لن يطول
إذا كانت كلّ المعطيات في الإقليم تؤكّد أنّ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يلعب في الساحات مستغلاًّ الانشغالات الدّولية بتداعيات فايروس كورونا، وبالنزاعات السياسية في كلّ اتجاه، فإنّ التفلّت الأردوغاني لا يبدو أنّه سيدوم طويلاً.
حاولت أنقره استغلال النقمة الروسية على السلطة الأرمينية التي حاولت إقفال الباب على موسكو، مقابل الانفتاح على الغرب، بعد إبعاد الرئيس الأرميني كلّ الطقم الداخلي المتحالف مع الروس، واعتماده على شخصيات “المجتمع المدني” القريبين من الأميركيين. هنا وظّف أردوغان النقمة الروسية على الرئاسة الأرمينية، واحتضن آذربيجان للقيام بحملة عسكرية في ناغورني قره باخ، لتثبّت بعدها المحطّات الحربية ثم الدبلوماسية أنّ يريفان دفعت ثمن الابتعاد عن موسكو. لذا، كانت تركيا أبرز المستفيدين في لعبة توظيف وقائع ونتائج المعركة الأرمينية – الآذرية.
لعب أردوغان أيضاً على مساحة التنافس في جبهات عدّة: روسيا – الولايات المتحدة الأميركية، الصين – أميركا، إيران – أميركا، إسرائيل – إيران، الخليج – إيران، قطر- السعودية. ومن هنا نفّذ الرئيس التركي خطّة القضم باتجاهات: قبرص واليونان بحراً، شمال سوريا برّاً، مصر وليبيا. يحاول أيضاً التقدّم دبلوماسياً وسياسياً باتجاه لبنان، مساحات القوقاز، ودول إسلامية غير عربية تحت حجّة التحالف لبناء جبهة سياسية عريضة. فهل ينجح أردوغان بإعادة الأمجاد العثمانيّة مقرونة بطورانيّة ضمنيّة؟
لن يدوم التفلّت التركي طويلاً، بعدما حاول أردوغان مدّ يديه إلى ساحات عدّة، وخصوصاً عبر استخدام ورقة اللّاجئين في أوروبا، وفتح باب الهجرة غير الشرعية في إطار ممارسة الضغوط على الأوروبيين. بدأ الحراك الفرنسي الآن يجمع حشداً دولياً وازناً لتقليم الأظافر الأردوغانية بهدوء، من خلال اللّعب بأوراق الاقتصاد التركي وفرض خفض قيمة اللّيرة التركية.
يعرف أردوغان أنّ فوز جو بايدن في رئاسة الولايات المتحدة الأميركية سيعزّز الأدوار الأوروبية وخصوصاً الفرنسية. هنا تشير المعطيات إلى أنّ “دولة الأمن القومي” الأميركية ستستعيد مجدها في زمن بايدن، وهي ستعمل على رصّ الصفوف مع الأوروبيين للقيام بحملة ضد أردوغان تصل إلى حدّ تبنّي طرح إسقاطه من الداخل. بالذات يُمكن لروسيا الاستفادة من تلك الوقائع لتوظيف المرحلة الآتية وفرض تسويات في سوريا مثلاً، كان يُجهضها أردوغان منذ سنوات، في محاولة قضم للساحة الشمالية السورية.
سيلجأ الأتراك للصين من خلال فتح الباب على مصراعيه أمام بكّين و”طريقها الحريري”. لكن لن تنفع كلّ المحاولات الأردوغانية نتيجة السخط المتدرّج على سياساته، عربياً وأوروبياً وأميركياً، في وقت تستفيد روسيا والصين من نزاعاته مع الآخرين، وتُدرك موسكو أبعاد المخطط الأردوغاني في القوقاز، وبكّين لا تنسى ملف الإيغور والتبنّي الأردوغاني الكامل لملف الانفصال، في مشاكسة تركية واضحة على الصين.
هناك مساحة زمنية بسيطة سيستغلّها أردوغان حتّى آخر لحظة في تنفيذ مخطط التوسع، في وقت يدور فيه نزاع داخل الولايات المتحدة بين الرئيس دونالد ترامب والحزب الديمقراطي الفائز بانتخابات الرئاسة، سينتهي بعد تسلّم بايدن مفاتيح البيت الأبيض. لكنّ السجال الأميركي الشرس يدور حالياً داخل أروقة البنتاغون بين الوزير كريستوفر ميلر ومستشاره دوغلاس ماكريغير ومساعديه انتولي تاتا وعزرا كوهين، وبين رئيس الأركان مارك ميلي وجنرالاته، بشأن الانسحابات العسكرية من أفغانستان والعراق وسوريا، وستكون الأيّام الآتية كفيلة ببتّ الأمر والتوجّه نحو قيام تسوية مع إيران ينادي بها دوغلاس ماكريغير، ويؤمن بها بايدن. بعدها سيحصل التفرّغ الأميركي الأوروبي للّعب بالأوراق التركية، كما تُظهر المؤشرات.
لن يبقى أردوغان يمارس وحده اللّعب على التناقضات الدّولية، وخصوصاً بين الأميركيين من جهة وكلّ من الروس والصينيين والإيرانيين، ولا أن يتفرد بساحات الإقليم. علماً أنّ أوراق الأتراك مؤذية وتعتمد على إعادة النبض للمجموعات الإسلامية المتطرفة التي تُمسك أنقره بقرارها. فلننتظر قليلاً، لكن كلّ المعطيات تشير إلى أنّ الزمن الأردوغاني الذهبي لن يطول.
عباس ضاهر